Tuesday 8 September 2015

مرحلة تحريرالعراق

في العراق كانت قبيلة بكر بن وائل بزعامة المثنى بن حاثة الشيباني أحد أبطال ذي قار تقارع الفرس وتسعى لطرد الأعاجم عن ارض العراق العربي وكانت معاركهم استمرارا ونتاجا لانتصارهم في ذي قار ولم ينقطع القتال طويلا بالبلاد وفي أثناء حروب الردة شارك المثنى وقواته من عرب أهل العراق في قمع المرتدين في منطقة البحرين وشمال شبه جزيرة العرب علاوة على حسن بلائه ضد الفرس حتى وصلت أخباره إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما قال( من هذا الذي تأتينا أخبار وقائعه قبل معرفة نسبه) وكنت قد كتبت قبل فترة موضوعا حول ذلك , وتلقى الخليفة الجواب من قيس بن عاصم بان قال هذا رجل غريب غير خامل الذكر ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد...هذا المثنى بن حارثة الشيباني ولم تكن شخصية المثنى بغير معلومة عن دار الخلافة والصحابة رضوان الله عنهم فقد سبق للمثنى من قبل أن ترأس وفد عرب العراق من بني شيبان الذي زار المدينة والتقى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكان المثنى بنفسه من حاور الحبيب المصطفى فكان حوارا تاريخيا هاما بنيت عليه بذرة اجندة تحرير العراق من براثن الفرس ,فيذكر إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلا على الوفد بسم الله الرحمن الرحيم(قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم)و(إن الله يأمر بالعدل والإحسان)صدق الله العظيم, فأجاب المثنى بقوله لقد سمعت مقالتك واستحسنت قولك أعجبني ما تكلمت به ولكن علينا عهد من كسرى لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما يكرهه الملوك, فإذا أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي بلاد العرب فعلنــا!! فأجاب الرسول صلى الله عليه وسلم(انه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه بجميع جوانبه).
وهنا تبدر الإشارة إلى إن عرب العراق قد أبدوا كبير الاهتمام لمساندة الإسلام منذ انطلاقته كونه يدعو إلى التحرر وسعيهم للحفاظ عليه من الأعداء واستعدادهم لنصرة بلاد العرب حين الطلب مع أحقية تحالف المسلمين معهم كقوة كبرى لتساندهم بتحرير العراق من الفرس وذلك يبدر جيدا بالجزء الأخير من حديث المثنى الذي توج بالتأييد بعبارة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الختامية فكان خير أمل ودافع للزعيم ووفده وبلادهم بأسرها حين حظوا بذلك الاهتمام الكريم , وإضافة لدور المثنى وقواته السالف الذكر في معارك الردة في المناطق المذكورة فانهم شاركوا في قمع المرتدين في جنوب العراق وغربيه من شبه جزيرة العرب خاصة عند استغلال الدولة الفارسية للفرصة وقيامها بإسناد المرتدين ومدهم بالمال والسلاح والرجال لأجل تعويق الفتح الإسلامي المتوقع وإلهائه بحروب داخلية منهكة أطول مدة ممكنة كسبا للوقت بحسب حسابات ساسة تلك الإمبراطورية المتهاوية فقد فكر المثنى أن ينهي معارك الردة ليتفرغ لموضوع إنهاء النفوذ الفارسي بالعراق فبعد القضاء على المرتدين في الحسا والقطيف وشبه جزيرة قطر تقدم المثنى نحو جنوب العراق الكويت رغم علمه انه سيواجه القطعات الفارسية المتواجدة عند الخريبة والتي كانت مدينة تسمى (دهشتاباذ اردشير ) وخربت لكثرة القتال الذي جرى بها فسميت بالخريبة فكانت انطلاقة تحرير العراق من هناك وقد ساعده على اتخاذ ذلك القرار العسكري والسياسي ما يشبه إعداد تقديراتنا اليوم للمواقف العسكرية التي تتخذ من قبل قادة الأركان العسكرية بالحروب والمعارك الفعالة.
عوامل تحرير العراق
تقدير موقف تحرير العراق
1/ ضعف هيبة الدولة الفارسية الساسانية بعد هزيمتها مع الروم.
2/ تدمير خيرة القطعات العسكرية للفرس بتلك المعارك الضارية وخاصة معركتي نينوى ود ستجرد (المقدادية).
3/فاعلية حرب العصابات الخاطفة التي تشنها قبائل بكر العربية منذ واقعة ذي قار واستمرارها لمدة ربع قرن مما أنهك الجيش الفارسي النظامي .
4/كراهية عرب العراق للنفوذ الفارسي ببلادهم نتيجة للمظالم والحيف الذي لقوه من الفرس .
5/انقسام قادة الفرس الواضح نتيجة لصراع الأمراء وانقسامهم على أنفسهم للوصول إلى العرش.
6/ مجاورة العراق للصحراء العربية التي تضمن حسن الأداء العسكري ما بين الكر والفر وضمان وصول الإمدادات والمعونة لكسب نتيجة الصراع الطويل.
7/استغلال ذروة الحماس الديني الإسلامي ضد الفرس عندما انكشف تدخلهم الرئيسي بتأييد ودعم المرتدين عن الإسلام.
8/أحس المثنى كقائد محنك إنها الفرصة الأمثل للاستفادة من فرصة تواجد الجيش العربي الإسلامي الذي تجمع بعد قتال المرتدين والبالغ قوامه قرابة ثمانية آلاف مقاتل للمباشرة بتحرير بلاده وكسب دعم الخليفة أبي بكر حين يضطر لنجدتهم عندما يباشروا بقتال الفرس لفتح العراق.
9/ ضمان الحصول على كامل خيرات العراق وموارده لدعم الدولة الإسلامية.
10/تحقيق أماني الأجيال العربية بالعراق بالتحرر من نير الظلم الفارسي المطبق عليهم منذ سقوط كيانهم السياسي العريق بسقوط حكم الكلدانيين في بابل.
عند دراسة كل تلك العوامل الهامة قرر القائد البطل المثنى بن حارثة الشيباني خوض معارك تحرير العراق انطلاقة من الخريبة التي أقيمت فيما بعد مدينة البصرة في موقعها من قبل القائد عتبة بن غزوان في عام 17ه.


ابتداء المعارك لتحرير العراق
الخريبة

بعد القضاء على المرتدين في الحسا والقطيف وشبه جزيرة قطر المسماة اليوم بالبحرين وبعدها تقدم المثنى بقواته صوب جنوب العراق الكويت لتحريره فاصطدم بالقطعات الفارسية عند موقع مدينة البصرة الحالية ولم تكن قد بنيت بعد وكانت تسمى قبلها مدينة دهشتاباذ اردشير وتمكن من دحر القوة الفارسية المسيطرة والقضاء عليها فدخل المدينة التي خربت لكثرة القتال فيها فسميت عندئذ بالخريبة وهي التي بنى على موقعها القائد عتبة بن غزوان مدينة البصرة التاريخية في عام17للهجرة.

الابلة

وبعد انتصار المثنى في الخريبة (البصرة القديمة) زحف شرقا نحو الابلة وهي اليوم مينائها وعلى موقع البصرة الحالية والابلة هي المدينة التي خربت فيما بعد بما يعرف بخراب البصرة في عام 256هجري عند حدوث ثورة الزنج التي حدثت بأيام الدولة العباسية وقد كانت موجودة حتى ذلك التاريخ, وقد اندفع إليها المثنى لانه على يقين إن الفرس سيحاولون استعادة دهشتاباذ فقطع الطريق عليهم وبذا فانه سيطر على المنطقة برمتها مما لا يستدعي ترك حامية كبيرة هناك خاصة عند القضاء على اكبر حامية فارسية في جنوب العراق وهي التي موجودة بالابله عند ذلك هاجم المثنى بقواته مواقع الجيش الفارسي لتلك الحامية في الابلة فدارت حولها معركة عنيفة انتهت بتدمير القطعات الفارسية واسر معظم جنودها واقتيادهم وتحرير الابلة.
التقدم صوب الحيرة

بعد تحرير الخريبة والابله تمت السيطرة للقوات العربية بقيادة المثنى على وادي شط العرب وما يجاوره شمالا إلى القرنة وجنوبا حتى مصب دجلة العوراء (شط العرب) في الخليج قريبا من الابله وبذا بات من اليسير الاندفاع إلى غرب نهر الفرات أي صوب الحيرة فتقدم المثنى بقواته النشيطة إلى الحيرة وقد حقق الانتصارات الباهرة في طريقه إليها بتصفية مواقع الفرس حتى بلغ الحيرة وقد حاصرها بعد أن قاومته حاميتها لأنها كانت تمتلك أسوارا عالية ولم يكن يمتلك وسائل ليدك بها تلك الأسوار لذا استمر في حصارها وفي الجانب الآخر كانت المدائن قرابة مائة ميل وكان الفرس يتحسسون هذا الخطر الداهم والقريب فاخذوا بتجهيز جيش كبير لطرد الجيش العربي من جوار الحيرة وقد علم المثنى بذلك وبما انه كان قائدا عسكريا محنكا فقد أدرك انه لن يستطيع المجازفة بقواته تلك وحدها فهي لن تستطيع الصمود أمام الجيش الفارسي الزاحف قبل أن يتحصل على دعم وتعزيزات قوات عربية إسلامية من الحجاز لان القضاء على قواته يعني القضاء على الأمل بتحرير العراق بكامله لهذه الأسباب قرر عندها السفر إلى المدينة للاجتماع بالخليفة أبى بكر رضي الله عنه وباقي الصحابة ليعرض عليهم تطورات الأمر بالعراق وليوضح لهم ضعف الإمبراطورية الفارسية وامكانية الانتصار عليها بتلك المرحلة لأهمية العراق دائما فشرح ذلك كله للخليفة والصحابة ثم طلب منه ان يعينه قائدا على العراق وقومه وانه سيكون الكفيل بمشاغلة الفرس حين قال( يا خليفة رسول الله استعملني على قومي فان فيهم إسلاما أقاتل به أهل فارس وأكفيك أهل ناحيتي من العدو) وطلب من الخليفة إن يمده بالمعونة والمساعدات وأهمها القطعات العسكرية الساندة لضمان تحرير العراق فاتخذ الخليفة أمرا بتعيين المثنى قائدا على القوات بالعراق وقد أعطاه وعدا بأنه سيمده بالقطعات الساندة فعاد المثنى من فوره إلى العراق لمواصلة تعرضه للقوات الفارسية .

موقعة كاظمة

ذات السلاسـل
آذار633م/12ه

الحشد
بقلم اسد الاسلام
بعد أن اجتمع الخليفة أبى بكر مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين للتشاور بأمر العراق فقد قرر أن ينجد المثنى بجيشين للدعم من خلال الإيعاز أولا إلى القائد خالد بن الوليد بان يتحرك إلى العراق بمن بقي معه من القوات بعد معارك الردة (وقيل إن العدد الذي بقي معه لم يكن يزيد على التسعمائة محارب ) لا غير وثانيا إرسال القائد عياض بن غنم إلى دومة الجندل أي مدينة الجوف في شمالي السعودية لإخضاعها ومن ثم التوجه إلى الحيرة بالعراق لمؤازرة القوات العربية وقد كان قلب الحشد للمعارك يتعاظم في جنوبي العراق كما تقدم ثم دقت الطبول لمعركة تاريخية أخرى هي واقعة كاظمة أو ذات السلاسل وتقع كاظمة في الجزء الغربي من الكويت ولقد أوعز الملك الفارسي اردشير للقائد هرمز بالتصدي للقوات العربية في العراق الذي أسرع من فوره إلى كاظمة والحفير لاستباق الحشود العربية للسيطرة على آبار الماء فيها كمنحى عسكري لاضعاف قدرة القوات العربية القتالية لأهمية الماء آنذاك كعنصر حيوي لإدامة مقتضيات المعركة من خلال سد الحاجة الماسة إليه وقد لاحظ القائد خالد بن الوليد إن الفرس قد سبقوهم إلى كاظمة وآبار الحفير فأراد استنهاض همم جنده وان ينبههم لأهمية الحصول على الماء الضروري للمعركة فجمعهم وألقى فيهم خطابا كان منطلق عنوانه إن ( ليصيرن الماء لأصبر الفريقين واكرم الجندين فحطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء) وقسم جيشه إلى ثلاث فرق الأولى بقيادة المثنى بن حارثة والثانية بقيادة عدي بن حاتم الطائي وعاصم بن عمرو والثالثة بقيادته بنفسه أما عن القوات الفارسية فقد تم ترتيبها على أساس الاستماتة على الحفير وقد كان القائد هرمز في القلب مع قواته بينما كان كل من القائد انو شجان وقباذ وهما أولاد الملك الفارسي اردشير يتوليان قيادة القوات على الجناحين لموقع التحشد في تلك المنطقة وهنا لابد من إثارة نقطة مهمة وهي إن الجند الفرس بتلك المعركة كانوا مصممين على الثبات حتى الموت فقد ربطوا بعضهم ببعض بالسلاسل الحديدية وذلك ليرفعوا عن كواهلهم عار توالي الهزائم التي ألحقت بهم من قبل القوات العربية بقيادة المثنى بن حارثة الشيباني ولهذا سميت تلك المعركة بمعركة ذات السلاسل .
المعركة
لقد ابتدأت تلك المعركة بحسب الصيغة التقليدية التي كانت معروفة وقتذاك وهي بطلب القادة للمبارزة فيما بينهم وهنا طلب هرمز خالدا للمبارزة فلبى خالد النداء بحسب ما هو معلوم عن مقدرته وشجاعته وتضحيته في تلك المواقف وسرعان ما تمكن خالد من الانتصار على هرمز وقتله وقد اتضح إن طلائع الجيش الفارسي تبيت أمرا وهو إنها تروم أن تتحرك لقتل خالدا بحسب خطة معدة لتحطيم معنويات المسلمين لكن القائد الفطين البطل القعقاع بن عمرو كان يراقب ساحة المعركة مثلما كان يراقب المبارزة وهو الذي لحظ ململة وتحرك تلك القطعات الأمامية فهجم بقواته على طلائع جيش الفرس وسحقها بمباغتة رائعة مما أعطى الوقت لخالدا أن يحتز راس القائد هرمز لتحطيم معنويات الجيش الفارسي فاندلعت المعركة وحمى الوطيس واستعر الصراع حتى تحطم الجناحان الفارسيان تحت وطأة الهجوم العربي وتراجعت القوات الفارسية مما اضطر قباذ أن يفر من ساحة المعركة ولحقه أخاه انو شجان وأبيد من تبقى من الجند في ساحة المعركة .
المطاردة
كلف القائد خالد بن الوليد المثنى بن حارثة الشيباني للقيام بمطاردة فلول القوات الفارسية لمعرفته التامة بالمنطقة وبأساليب الفرس فتحركت قوات المثنى واندفعت بالاتجاه الشمالي الشرقي صوب منطقة شط العرب .

المطاردة

حصن المرأة
كلف القائد خالد بن الوليد المثنى بن حارثة الشيباني للقيام بمطاردة فلول القوات الفارسية لمعرفته التامة بالمنطقة ولكونه قائدا محنكا ملما بأساليب الفرس فتحركت قوات المثنى واندفعت بالاتجاه الشمالي الشرقي صوب منطقة شط العرب وبعد انتهاء المعارك برزت أهمية معرفة المنطقة بحسب تفكير خالدا وغايته من ذلك الأمر فقد اندفع المثنى بقواته باتجاه الشمال الشرقي نحو منطقة شط العرب حتى اصطدمت بحصن فارسي مقام على منطقة مدينة البصرة الحالية وكانت تقود الحامية الفارسية في ذلك الحصن امرأة ولذلك سمي بحصن المرأة وكان حصنا منيعا وقد استعصى على قوات المثنى ورأى المثنى إن فتح ذلك الحصن يتطلب هدر الوقت ويعوق من مسعى المطاردة التي خرج بقواته من اجلها فأراد أن يبقيه تحت اليد لذا أمر بمحاصرة ذلك الحصن وفرض عليه الحصار بقوة تحت قيادة شقيقه المعنى بن حارثة الشيباني واندفع المثنى بقواته على عجل لمواصلة مطاردة فلول الفرس الهاربة فاصطدم بحصن آخر يتحصن فيه أحد أمراء وقادة الفرس وهو زوج تلك المرأة التي بإمرتها الحامية التي تمت محاصرتها في الحصن الأول فأراد المثنى كسب الوقت فاقتحم الحصن بقواته العاصفة وأباد الحامية برمتها بما فيها قائدها زوج تلك المرأة التي لما علمت بما حصل لزوجها وحاميته استسلمت وأسلمت ولما دخلت الدين الإسلامي تزوجها المعنى بن حارثة الشيباني وقيل إن ذلك الزواج تم بناء على طلبها.
موقعة المذار

آذار من العام الثاني عشر للهجرة

إن المذار هي موقعة جرت أحداثها في موضع على مسافة ثماني كيلومترات جنوب شرقي منطقة قلعة صالح في محافظة ميسان الحالية العمارة سابقا فبعد كل تلك التداعيات المتلاحقة التي ألمت بساحة العراق والتهديدات التي تتجه وتزحف تجاه تقويض سلطة بلاد فارس بالتدريج حاول الملك الفارسي اردشير أن يفعل شيئا لصد الاندفاع العربي الإسلامي فأصدر أمرا يقضي بتعيين القائد قارن بن قريانس قائدا للحشد الجديد وكلفه بان يجمع فلول ما تبقى من الحشد السابق الذي خاض تلك المعارك وانهزم فيها كما أمر كل من القائدين قباد وانو شجان أن يعاوناه بقيادة ذلك التشكيل الجديد عندما يكتمل كجيش يزيد تعداده على الأربعين ألف مقاتل بعد أن كان المثنى مع قواته قد أوقع كبير الخسائر بتلك الفلول المنهزمة والتي لاحقها كالسيل الجارف من منطقة البصرة تجاه القرنة وهي محل تلاقي نهري دجلة والفرات واستمر معقبا لها تجاه وادي دجلة حتى بلغ مشارف المذار فأرسل لخالد بن الوليد من يطلعه على الأمر وهنا اثر المثنى أن لا يصطدم بجيش قارن وان ينتظر القسم الأكبر من الجيش بقيادة القائد خالد بن الوليد واكتفى بعملية المناورة والمناوشات لانهاك قوى الفرس وكسب الوقت ريثما يصل الجيش الأكبر بقيادة خالد بن الوليد .

معركة المذار

المعركة

عندما وصلت الأخبار أسرع القائد خالد بن الوليد بالقسم الأكبر من الجيش لنجدة المثنى وقواته المرابطة جوار المذار وعقد القادة اجتماعهم للمداولة بشان وضع خطة لحسم الموقف تضمن استمرار تقهقر القوات الفارسية واستثمار عرى النصر الذي تحقق فتم الاتفاق على خطة حرب اعتمدت في صميمها أن يخرق الجيش العربي جبهة الجيش الفارسي ويلتف عليه لإبادته في المذار فاندلعت المعركة وقام العرب بهجوم صاعق شديد على جبهة الجيش الفارسي بالمذار فدارت معركة شديدة وحامية الوطيس تحول العرب فيها إلى اسودا غالبة فاستبسلوا وبذلوا جهودا كبرى في ذلك القتال بتلك المعركة التي انتهت تقريبا بإبادة غالب الجيش الفارسي فقد قتل ما يزيد على نحو ثلاثين ألف جندي فارسي كما قتل القادة الفرس بأجمعهم كل من قارن وقباذ بن اردشير وانو شجان بن اردشير وانتهت المعركة بهزيمة أخرى للفرس وبالنصر الساحق للقوات العربية الإسلامية على القوات الفارسية كما إنها كانت قد فتحت أبواب العراق أمام الجيش العربي لتحريره كاملا والسعي بعرى الفتح الشرقي المؤمل وتدل أخبار التاريخ التي أرخها لنا الأولون إن القوات العربية لم تتمكن من مطاردة الفلول الفارسية المنهزمة بسبب إن المياه في منطقة الأهوار قد حجزتهم وحالت دون ذلك فقد كان ذلك هو موسم فيضان لمنطقة الأهوار وهو الذي يعيق الاستمرار بالملاحقة كما إن القائد خالد بن الوليد وإخوانه فكروا إن المضي بالتقدم نحو وادي دجلة سيجعل الفرس يستميتون على الدفاع وسيكون تعجيلا بمعركة الحسم التي قدر القادة حينها بوجوب تأجيلها والاستمرار باستنزاف القوات الفارسية والتحول صوب وادي الفرات لتطهيره وضمانه كظهير جيد عندما يحين موعد الهجوم النهائي الحاسم



العراق عروبته تحريره اسلامه
معركة تحرير الوَلجة
صفر العام ثاني عشر للهجرة


بعد أن انتصرت قوات الجيش العربي الإسلامي بقيادة خالد بن الوليد بنصرها الرائع في معركة المذار وقيامهم بمطاردة فلول قطعات الجيش الفارسي المنهزمة إلى أقصى حد متاح تحول الجيش العربي من وادي دجلة إلى وادي الفرات زاحفا صوب ذي قار بحسب خطة معدة حين أحس القائد الفذ خالد بن الوليد بان هدف الفرس هو جر قوات الجيش العربي إلى كمين معد يدخلهم بكماشة قوات الجيش الفارسي المتواجدة غالب قطعاته بين منطقة ( الولجة ) الشطرة الحالية ومنطقة الحيرة التي خمن الفرس إن العرب يرومون الزحف عليها حتما فأرادوا أن يجعلوا الجيش العربي يستمر بالتقدم صوب الحيرة ليلتف عليه الجيش الفارسي من خلفه ويقطع عليه الإمدادات وخط مواصلاته ويحاصره تمهيدا للانتصار عليه ولكن فطنة خالدا فوتت الأمر عليهم حين قرر إن يستدير بجيشه شرقا ليعالج أمر القطعات الفارسية المتواجدة في الولجة ليقضي عليها ويؤمن ظهير جيشه وعندئذ يفكر بالتقدم وذلك تخطيط وتقدير موقف عسكري رائع.

المعركة

لقد كان القوات الفارسية في منطقة الولجة بقيادة القائدين بهمن جاذويه والأندر زغر وهما اللذين كانا يسيطران على المنطقة وقد احتلا موضعهم فيها ولكن خالدا وبذكائه المعهود كان قد اعد خطة أخرى لتلك المعركة تفيد بمشاغلة القوات الفارسية بقواته الرئيسية ثم التراجع أمامها لإرغامها على الانفتاح أمام قواته في حين انه كان قد اعد كمينا فاعلا في حال جر القوات الفارسية في كماشته وقد أوكل لقيادة الكمين القائدين بسر بن أبي رهم وسعيد بن مرة وجعل واجبهم هو التدخل السريع في المعركة بلحظاتها الحاسمة حينما تكون القوات الفارسية قد اشتبكت بأجمعها في ساحة المعركة وفعلا تحقق لخالد ما خطط له وأراده فقد اشتبك القائد خالد بن الوليد بقواته الرئيسية مع القوات الفارسية وتراجع أمامها متظاهرا بالاندحار أو الانسحاب لكي يستدرجها إلى منطقة الكمين المعد لتضربها قوات الكمين بالأجنحة والخلف ثم يلتف عليها بقواته ليقضي عليها تماما وهذا هو الذي حدث بالفعل فقد حوصرت تلك القوات ووقعت تحت وابل ضربات مقاتلي القوات العربية بعد أن صدت القوات العربية ابتداء الاندفاع الفارسي حتى برزت قوات الكمين العربية التي أحاطت بالقوات الفارسية كما هو مخطط لها ففوجئت القوات الفارسية وأصابها الهلع والذهول من المباغتة فحاولت الفرار ولكن بعد أن أصيبت بخسائر فادحة وجسيمة كان من جملتها القائد الأندر زغر الذي قتل في تلك المعركة الرائعة.

معركة تحرير أُليّس

معركة نهر الدم

صفر العام ثاني عشر للهجرة

بعد أن انتصر الجيش العربي الإسلامي في المشارك في حرب تحرير العراق في معركة الولجة بذلك الانتصار الساطع اندفع بقيادة القائد خالد بن الوليد كالعاصفة في وادي الفرات صوب منطقة (أُليّس) السماوة الحالية وكان القائد الفارسي اردشير قد اضطر لجمع فلول قوات جيشه المنهزمة وتجهيزها على شكل قطعات كما يحدث دوما بعملية إعادة تنظيم تعبوية تجرى بعد المعارك الحاسمة التي تستنزف بها القوات القتالية فيتم تحويلها إلى قوات دفاعية مما دعا اردشير أن يأمر القائد بهمن جاذويه الفار من المعركة السابقة بإعادة تنظيم قواته والتوجه إلى منطقة أُليّس والتحصن بها لاعاقة تقدم القوات العربية وعلها تفلح في صد اندفاع قوات الجيش العربي الإسلامي الرامية للهجوم على الحيرة بالطبع فتقدم القائد بهمن جاذويه حسبما طلب منه ونظم قطعاته استعدادا لتنفيذ الأمر الذي أوكل إليه في مسعى تعويق قوات الجيش العربي الإسلامي فكانت المقدمة بقيادة القائد الفارسي جابان وكان واجبها هو احتلال موضع في أليس وعرقلة تقدم طلائع القوات العربية الإسلامية وقد أمره بهمن أن (كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى الحق بك إلا أن يعاجلوك) لكن الذي حدث إن القوات العربية هجمت هجوما مباغتا فبدا الفرس لما انشغلوا بإعادة تنظيم قطعاتهم شغلوا عن أمر تحركات الجيش العربي وان أخبارهم كانت خافية عنهم فقد بوغتوا مباغتة كبرى حين هاجمهم القائد خالد بن الوليد بقواته في وقت كانوا يتناولون به طعام الغداء فارتبكوا ولما قاموا للقتال دارت معركة كبيرة قتل فيها معظم الجيش الفارسي حتى سالت بدماء جنده مياه النهر لذا سميت تلك المعركة الرهيبة بمعركة نهر الدم لكثرة ما سال بها من دماء القوات الفارسية وكان خالدا قد حلف يمينا أثناء القتال الضاري وهو يناشد الله قائلا( اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا استبقي منهم واحدا قدرنا عليه حتى اجري النهر بدمائهم) وهنا تجدر الإشارة إلى إن تلك المعركة كانت من اشد المعارك التي خاضها القائد البطل خالد بن الوليد في سيرته القتالية الجهادية فقد وصفها فيما بعد بقوله( لقد قاتلت يوم مؤته فانقطع في يدي تسعة أسياف وما لقيت من أهل فارس قوما كاهل أُليّس) في إشارة إلى شدة رحى القتال الذي دار في تلك المعركة الرهيبة وما جرى بها من قتول دامت نحو ثلاثة أيام .

ما قيل في روعة الانتصار

ما قاله أبو مقرن الأسود وهو المقاتل الذي اشترك بتلك المعركة فقال

لقينا يوم أُليس إمغـــى ****ويوم المقر آساد النهــار

فلم أر مثلها فضلات حرب****أشد على الجحاجحة الكبار

قتلنا منهم سبعين ألفـــا **** بقية حربهم نخب الكبـار

سوى من ليس يحظى من قتيل****ومن قد غال جولان الغبار


تحرير امغيشيا

بعد انتهاء أحداث معركة نهر الدم والانتصار الساحق لقوات الجيش العربي الإسلامي في أليس اندفع الجيش العربي شمالا صوب امغيشيا وفي الغالب أن يكون موقعها بين السماوة والحيرة والتي انهزم أهلها والقوات المدافعة عنها مذعورين بعد أن شاعت أخبار معركة نهر الدم وما جرى بها من قتول فتقدم أيليها الجيش العربي الإسلامي وغنم منها غنائم لم يسبق له أن غنم مثلها من قبل .

التقدم نحو الحيرة

بعد توالي الانتصارات للقوات العربية الإسلامية والتي كان آخرها السيطرة على امغيشيا تيقن حاكم الحيرة (آزاذبه) إن الجيش العربي قادم صوب الحيرى ولا مناص من ذلك فحاول أن يعرقل سير ذلك التقدم والاندفاع العربي الإسلامي فأرسل قوات دفاعية بقيادة ابنه الذي حينما وصل بقواته وشاهد اندفاع جيش خالد وهو يركب السفن متجها صوب أعالي الفرات فأمر بتحويل المياه من نهر الفرات نحو جداول الاهوار الموجودة حد أيامنا هذه وذلك لينخفض منسوب المياه في النهر لمنع حركة السفن واعاقتها فلاحظ القائد المحنك خالد بن الوليد ذلك بفطنته وقرر على عجل التحول لقيادة قطعات الخيالة السريعة التي تعتمد الخيول العربية التي تسابق الريح كالبرق الخاطف للهجوم بحركة التفاف نحو ملتقى أحد فروع نهر الفرات بالفرات ألام ويدعى العتيق جنوبي القادسية وذلك لتدمير القوات التي يقودها ابن آزاذبه ولاحتلال السدود والقناطر هذه المرة فتمكن من ذلك بيسر فأمر بإعادة المياه إلى نهر الفرات مما جعل سفنه الحاملة للجند تمخر مياه النهر من جديد متوجهة صوب الحيرة وبقيت تسير حتى وصلت تماما أمام قصر الخورنق الشهير في منطقة الحيرة (بحر النجف).

معركة تحرير الحيرة

حينما أدرك آزاذبه بان القوات العربية الإسلامية باتت على مقربة من تحقيق هدفها المرسوم بتحرير الحيرة فر تاركا قوات حامية المدينة لمصيرها فتمكن خالد من محاصرتها بقواته الرئيسية وحاول اقتحامها في بادئ الأمر فاستعصت عليهم فعمد إلى وضع خطة لاقتحامها وقد كان الهجوم على الحيرة عاصفا وقد تم ترتيبه متزامنا فقد هجمت كل من كتيبة ضرار بن الأزور على حصن القصر الأبيض أولا ثم وكتيبة ضرار بن الخطاب بالهجوم على حصن قصر العدسيين وهجمت كتيبة ضرار بن مقرن المزني على حصن قصر بني مازن وقد هجمت كتيبة المثنى بن حارثة الشيباني على حصن قصر ابن بقيلة ثم تم الاقتحام عنوة إلى الحيرة بعد أن رفض القائمون عليها نداء السلام ولم ينصاعوا لطلب الجيش العربي الإسلامي بفتح أبواب حصونها فدارت معركة ضارية تمكن فيها المسلمون من اقتحام الحصون ودكها دكا ثم أبادوا معظم حاميتها العسكرية وهنا تم طلب الصلح أخيرا وان يدفعوا الجزية وقد حدث ذلك في مايس عام 633م وتم لهم ذلك فدخلها المسلمون.

كأنها سنة نساء

تفتح براعم تحرير العراق

بعد أن دخل القائد خالد بن الوليد الحيرة واتخذها مقرا لتحركات جيش تحرير العراق وضرب رائع الأمثلة على حسن التعامل عند حلول القائد العربي المسلم مع إخوانه الآخرين من بني جنسه وبعد أن رفع عن كواهلهم الظلم وحررهم من نير الاحتلال الفارسي وسمح لهم بتأدية أعمالهم ومزاولة أشغالهم بحرية كاملة ومنحهم حقوقهم كاملة وبأحقية التصرف بأراضيهم حتى اطمأنوا إلى تحقق العدل بينهم حيث بقي خالدا فيها نحوا عاما كاملا ليعيد تنظيم أمور المناطق المحررة ويقضي حاجياتها ويهتم بها فكان ذلك مدعاةً لقبوله بين الناس ولطلب التعجيل بتحرير كامل التراب العراقي خاصة حين عمت أصداء أخبار ذلك العدل الذي حققه المسلمون من أطراف العراق وحتى الحيرة فلم يبقى وقتئذ بوادي الفرات بالعراق من يقاوم القوات العربية الإسلامية سوى حامية قس الناطف في موقع الكوفة الحالية وفي باروسما( وقد ذكرها الطبري بسما) وتلك هي السنة التي قال عنها خالدا فيما بعد (كأنها سنة نساء) في إشارة لعدم دخوله معارك كبيرة فقد كان الخليفة أبو بكر رضي الله عنه قد حدده في تلك السنة ومنعه من التقدم حتى تصله القوات العربية الإسلامية اللاحقة التي هي بإمرة القائد عياض بن غنم الذي اشتبك بالقتال في دومة الجندل وتأخر فيها مما أخر تحرير العراق أيضا وقد صالح أهل قس الناطف أهل باروسما خالدا على الجزية أولا وفق الكتاب الآتي:

((بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه أني عاهدتكم على الجزية والمنعة على كل ذي يد ببانقيا وباروسما على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة(وهي خرزة كسرى كما ذكرها الطبري) القوي على قدر قوته والمقل على قدر إقلاله في كل سنة وانك قد نُقبّت (أي عينت نقيبا) على قومك وان قومك قد رضوا بك وقد قبلت ومن معي من المسلمين ورضيت ورضي قومك فلك الذمة والمنعة فان منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم)) .

وقد عين خالدا فيما بعد القائد القعقاع بن عمرو التميمي حاكما على الحيرة حين اراد التقدم صوب الانبار مدينة الرمادي الحالية عند حلول شهر شباط من عام 634م .

العراق عروبته تحريره إسلامه
بدء تحرير الأنبار
بعد انقضاء السنة التي قضاها القائد خالد بن الوليد بتنظيم أمور أجزاء العراق المحررة والتي شبهها كأنها سنة نساء وعند انتهاء تلك السنة ووصول التعزيزات من المدينة حسم أمره بالتقدم لتحرير الأنبار في شباط من عام634م وهي محافظة الأنبار الحالية التي هي تقارب مساحتها ثلث مساحة العراق لذا هي مترامية الأطراف وتشتمل مدينة الرمادي في مركزها وجوارها مدن عديدة أقربها إلى المركز مدينة الفلوجة الجريحة وقد تقدم بالزحف صوب الأنبار من غرب موقع كربلاء الحالية تجاه الفلوجة وكان على مقدمة الجيش الأقرع بن حابس .
واقعة ذات العيون

بعد أن عبر الأقرع بن حابس بقواته في طليعة مقدمة الجيش العربي الإسلامي نهر الفرات متجها صوب الأنبار القريبة من الفلوجة الحالية كما أشرنا فوجدها محاطة بخندق عميق تحصنت خلفه حامية المدينة فلم يجد بدا سوى بمحاصرتها حتى يصل القائد خالد بن الوليد على راس القسم الأكبر من الجيش ولما وصل خالدا واستطلع مع سابقه ذلك الخندق والأرض المحيطة به وطبيعة الحصن قال القائد خالد بن الوليد(إنما أرى أقواما لا علم لها بالحرب فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها) فباشروا برميهم في أعينهم واكثروا من أصابتهم حتى قيل انهم لما تعاظم ذلك كانوا قد فقئوا لهم ألف عين وعين وهنا تصايح الناس لقد ذهبت عيون أهل الأنبار ولذلك سميت بواقعة ذات العيون ولكن مع كل هذا فان المدينة صمدت فأمر خالد بذبح الإبل ورميها فوق بعض في باطن الخندق حتى تصبح معبرا له ولقواته وفعلا تم له ذلك وعبر بقواته على قنطرة من لحم تلك الإبل واقتحم الأسوار فاستسلمت له المدينة وقبل أهلها بالصلح وتبين لخالد بعد المعركة إن أهل الأنبار هم عرب شأنهم شأن أهل الحيرة وانهم يتكلمون ويكتبون اللغة العربية ولما سألهم خالدا ما انتم قالوا إننا قوم عرب نزلنا إلى قوم من العرب قبلنا فقال لهم خالد وممن تعلمتم الكتابة فقالوا من أياد وانشدوا بيتين من الشعر/-
قومي أياد لو انهم أمهم *** أولو أقاموا فتهزل النعـم
قوم لهم باحة العراق إذا*** ساروا جميعا والخط والقلم

وهذا ما يثبت عروبة أهل العراق منذ ذلك التاريخ ومن قبل وقد تغنى شعراء العرب بتلك الانتصارات ونظموا في حقها

العراق عروبته تحريره اسلامه

تحرير شثاثــــــة

بعد أن حررت القوات العربية بقيادة القائد خالد بن الوليد الفلوجة في منطقة الانبار توجهت بعد ذلك صوب شثاثة وهي منطقة عين التمر وسكانها من العرب أيضا وقد علم القائد خالد بن الوليد إن الجيش الفارسي كان يضم عددا كبيرا من الجند والقوات المرتزقة من أبناء بعض القبائل العربية فتألم لذلك كثيرا وتلك القبائل المتعاونة والمتحالفة مع فارس على حساب العراق وأهله هي قبيلة تغلب وأياد بزعامة عقة بن أبى عقة بينما كانت القيادة العامة للقائد الفارسي حكم عين التمر الفارسي مهران بن بهرام الذي عمد إلى خطة خبيثة لضرب العرب بالعرب وقد وصفها لاصحابه وجنده حين سألوه عن الأمر فأبدى لهم قائلا( لم أرد إلا ما هو خير لكم وشرٌ لهم انه قد جاءكم من قتل ملوككم وفل حدكم فاتقيته بهم فان كانت لهم على خالد فهي لكم وان كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا ونحن أقوياء وهم مضعفون ) ثم تقدم عقة القائد العربي المتحالف مع الفرس بقواته وهو من قبيلة اياد في محاولة لصد الاندفاع العربي الإسلامي تجاه عين التمر وهنا توقف الجيشين إزاء بعضهما وجها لوجه بمرحلة تحضيرية تجسد إيذانا ببدء طقوس الحرب المتبعة والمعروفة آنذاك ثم ليبرز القائدان أمام جيشيهما كما جرت العادة أيضا فقال خالد بن الوليد ذلك البطل الفذ ( اني حامل على عقة فاكفوني ما عنده) فطلبه خالد للنزال وبعد مبارزة سريعة خاطفة تمكن سيف الله المسلول من اخذ عقة أسيرا وسحبه تجاه القوات العربية الإسلامية وقد كان بإمكان خالدا أن يطيح برأسه ببساطة إلا انه أراد أن يجعله للعرب مثالا وعبرة لمن يخون وطنه وبني جلدته وبعد تلك العملية البطولية الرائعة انهارت معنويات الجيش الذي يمثل فارس وارتبك أدائهم وسرعان ما هزموا وفروا فأسرع خالد بإحكام السيطرة على منطقة واحة شثاثة ثم تقدم بقواته طالبا مهران الذي تحصن بحصن في عين تمر فقد أراد القائد خالد الطرق على الحديد وهو ساخن لتحرير عين تمر فان السيطرة عليها باتت ضرورية في تفكير خالد بعد ذلك المسير الطويل والقتال المستمر ولحاجة جنده للراحة والتزود بالماء والزاد ولإراحة الدواب فلما علم مهران بما حصل لقوات عقة وان خالدا متجها نحوه ابدر إلى الهرب من حصن عين التمر وقد تحصنت بذلك الحصن بقايا قوات عقة المنهزمة فلما وصل خالد حاصرهم ورفض أن يستجيب لطلب الصلح معهم فقد ساءه كما تقدم أن يقاتل العربي أخاه العربي فأمر باعتقالهم جميعا ثم اصدر أمره بإعدام عقة بن أبي عقة فضربت عنقه في أوائل آذار من عام 633م أمام حشود الناس من العرب ليكون عبرة لكل عربي تسول له نفسه خيانة قومه فقد كانت المعركة بنظره هي معركة تحرير العراق العربي وأهله من نير الاحتلال الفارسي فكيف يجوز أن يساند الخونة المحتل الفارسي ومن اقدم على ذلك فقد استحق سوء العاقبة والمصير وقد كان جوار ذلك الحصن كنيسة يتواجد بها طلاب علم نصارى من عرب العراق قيل إن عددهم يومه كان أربعون فردا وقد اسلموا جميعهم فقرر خالد أن يستفيد منهم وقد كان من بينهم الطالب نصير وهو والد القائد البطل فيما بعد موسى بن نصير فاتح الأندلس الشهير رحمه الله

العراق عروبته تحريره اسلامه

معارك تحرير الانبار
معركة دومة الجندل

634م


وتقع دومة الجندل في شمالي المملكة العربية السعودية وهي مدينة الجوف وهي التي بعث إليها الخليفة أبى بكر رضي الله عنه بالقوات الإسلامية للسيطرة عليها بعيد أحداث الردة وكانت تلك القوات بقيادة عياض بن غنم وقد خطط الخليفة أن يتحول القائد عياض بقواته بعد إنجاز مهمته إلى العراق لنصرة جيش المسلمين هناك ولكن الحال انقلب حينما استعصت قبائل الدومة على قوات عياض مما اضطر القائد خالد بن الوليد لنجدته فاصبح عندها الأمر معكوسا وتحولت تلك القوات إلى عبء عوضا عن الظهير الساند فقد تحرك خالدا بقواته لنجدة قوات عياض بناء على أمر الخليفة أبى بكر الذي أمر بوجوب نجدتهم فامتثل لذلك الأمر علما إن المسافة بين دومة الجندل ومكان تواجد خالدا وقواته في العراق بعين التمر شثاثة هي قرابة ثلاثمائة ميل والتي تطلبت عشرة أيام لانتقال خالد بجيشه ولكنه رأى أن يبعث برسالة إلى القائد عياض بن غنم وهي تلك الرسالة الشهيرة التي عرفت بعنوانها المباشر وكانت :
(من خالد إلى عياض إياك أُريد) ( لبّث قليلا تأتك الحلائبُ , يحملن آسادا عليها القاشب, كتائبٌ يتبعها كتائبُ)
فوصل خالدا بقواته عند انقضاء مدة العشرة أيام التي تطلبها الطريق إلى دومة الجندل وقرر من فوره أن يحاصر قطعات الجودي بن ربيعة بجعله بين كماشة قواته وقوات عياض بن غنم وتحقق له مراده وحصل قتال شديد حتى فر الجودي إلى داخل الحصن فابدر خالدا إلى اقتحامه وقتل الجودي فيه وبذلك انتهى عصيان منطقة دومة الجندل سريعا فقد كان سيف الله المسلول حريصا على حسم الأمر على عجل لمعاودة إكمال مسعى تحرير العراق ذلك الهدف الأساسي الذي خرج إليه بجيشه خاصة وان الأخبار التي أتت من العراق تفيد بان قبائل الانبار قد وجدت فرصة في خروج جيش خالد من العراق فأرادت التمرد بدفوع من الفرس انتقاما لإعدام عقة بن أبي عقة الذي أغاظهم أمر معاقبته وإعدامه.
معركة الحصيد
إن القائد خالد بن الوليد عندما عاد مسرعا بجيشه إلى العراق بسبب ما وصل إليه من أخبار ذلك التمرد في الانبار اتجه من فوره إلى مدينة الحيرة ولما وصل إليها علم إن الفرس وبعض المرتزقة قد تمركزوا في الحصيد فكان أول ما فعله أن أمر القائد القعقاع بن عمرو التميمي بان يتوجه إلى منطقة الحصيد وهو مكان في أطراف العراق من جهة الجزيرة بحسبما ذكره غالب أهل التاريخ وقد يكون جوار عين التمر من جهة الغرب فتقدم القعقاع بقواته على عجل لتنفيذ الأمر بما عرف عنه من شجاعة وبسالة مشهودتين فكتب له أن ينتصر ويقضي على تلك القوات المتحالفة ما بين فرس ومرتزقتهم من عرب الانبار.
معركة الخنافس
بعد أن انتهت معركة الحصيد وانتصار المسلمين فيها بقيادة القعقاع اصدر خالدا أمره إلى القائد أبى ليلى بن فدكي السعدي بان يتوجه إلى الخنافس التي كانت جوار الانبار وقد كان القائد الفارسي مهبوذان وقواته يتحصن بها ولكنه سرعان ما فر ومن معه لما علموا بان القوات العربية الإسلامية متجهة صوبهم فصوّر لنا القائد أبى ليلى ذلك الموقف بصيغة أدبية شعرية رائعة هي:
وقالوا ما تريد فقلت ارمي*** جموعا بالخنافس بالخيول
فدونكم الخيول فألجموها *** إلى قوم بأسفل ذي أنول
فلما أن أحسوا ما تولوا *** ولم يغررهم ضج الفيول
وفينا بالخنافس باقيـات *** لمهبوذان في جنح الأصيل
يتبع
معركة المصيّخ
معركة الحشد الخطير بالانبار ضد المسلمين
معركة المصيّخ
وصلت الأخبار بان هنالك قبائل كثيرة من أهل الانبار قد تجمعت في منطقة المصيّخ وهو موضع قرب الرمادي بمحافظة الانبار الحالية وبلغ خالدا انه قد تمت إثارة أولئك من قبل الفرس وتم دفعهم للتمرد على القوات الإسلامية بذريعة الانتقام لحدث إعدام عقة بن أبي عقة وقد كان على راس قوات تلك القبائل( حرقوص بن النعمان والهذيل بن عمران) ولخطورة هذا الحشد الكبير على مسعى تحرير العراق فقد قرر خالد بن الوليد توجيه القادة كل من القعقاع بن عمرو وأبى ليلى واعبد بن فدكي وعروة بن الجعد كل بقواته من شتى الأماكن وتحرك هو أيضا على راس قوات أخرى وكلهم صوب المصيّخ وعيّن لذلك ميعادا كساعة صفر تم تبليغها للقادة المعنيين بالهجوم على المصيّخ ولما حل ذلك الميقات اندلع الهجوم الكاسح بوقت واحد والتقت الجموع في ساحة تلك الواقعة بالمصيّخ ودارت معركة ضارية عزوم فرّ فيها الهذيل وقتل حرقوص وقد أوردها الطبري وروى لنا وقائعها على لسان عدي بن حاتم الطائي فقال (أغرنا على أهل المصيّخ وإذا رجل اسمه حرقوص بن النعمان من النمر وإذا حوله بنوه وامرأته وبينهم جفنة من خمر وهم عليها عكوف يقولون له ,ومن يشرب هذه الساعة وفي إعجاز الليل , فقال لهم اشربوا شرب وداع, فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها, هذا خالد بالعين ((أي عين تمر)), وجنوده بحصيد وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا) فانشد يقول:
ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر*** بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر
وقبل منايانا المصيبة بالقـــدر*** لحين لعمري لا يزيد ولا يحري
وهنالك رواية أخرى حسب ياقوت الحموي أوردها في معجم البلدان إن حرقوصا كان قد نهى قومه عن قتال جيش خالد لكنهم رفضوا مشورته فعاد إلى داره وانشد:
ألا فاسقياني قبل جيش أبي بكر*** لعل منايانا قريب ولا نـدري
ألا فاسقياني بالزجاج وكررا *** علينا كميت اللون صافية تجري
أظن خيول المسلمين وخالدا***ستطرقكم عند الصباح على البشر
فهل لكم بالسير قبل قتالهم*** وقبل خروج المعصرات من الخدر
أريني سلاحي يا أميمة إنني*** أخاف بيان القوم أو مطلع الفجر
إنهاء التمرد حول الانبار
معركة الثني
بعد أن مني الهذيل بهزيمة كبيرة في المصيّخ التجأ إلى الثني وهي من مناطق جوار الانبار أيضا فتجمعت حوله ثانية أعدادا أخرى من الحشود المتمردة والمرتزقة لمقاومة جيش المسلمين بقيادة خالد ولما تجمعوا هجم عليهم خالدا بجيشه فقضى عليهم وأبادهم جميعا وتم تحرير المنطقة من تلك الطغمة المتعاونة مع الفرس.
معركة الرُضاب
634م
12هجري /الربيع
وغير بعيد عن عين التمر وفي الرُضاب كان قد تجمع أنصار هلال بن عقة بجمع آخر تحت قيادته تمهيدا للتمرد فبلغ ذلك الأمر مسامع القائد خالد بن الوليد الذي أسرع صوبهم ففروا جميعا قبل لقائه فتم تحرير الرضاب.
الفِراض
لم يبقى بعد تحرير الرُضاب غير موضع الفِراض الذي هو محل السقاء من الأنهار ويقع إلى الشمال الغربي من مدينة الرمادي وكان يمثل ملتقى حدود الإمبراطوريتين المحتلتين لبلاد العرب في تلك المنطقة وهما الفرس والرومان وقد تجمعت بذلك الموضع قوات فارسية ورومانية كصف واحد في تحالف لمواجهة الجيش العربي الإسلامي وهنا تكمن الإشارة لإمكانية التحالف المحتمل بين أعداء العرب والإسلام في أية زمان ومكان فقد وقف الحشدين إزاء بعض على جانبي الفرات وقد جرت مراسلات متعددة بين الفريقين حول اختيار ميدان للمعركة وعن أيهما يعبر الفرات إلى الآخر فقد قال الفرس والروم للعرب ( أما أن تعبروا إلينا أو نعبر إليكم) فأجابهم خالد بل(اعبروا إلينا) فقالوا (ابتعدوا حتى نعبر) فأجابهم خالد (بل اعبروا اسفل منّا) وفي آخر المطاف عبرت القوات الفارسية وحليفتها الرومية نهر الفرات والتحم الجمعان فدارت هناك معركة كبيرة حامية الوطيس وضارية خطها القدر في لوائح التاريخ والزمن ومهما قيل وكان الرأي بشان المبالغة في تقدير ما راح بها من قتول قوات الفرس والروم فستبقى الأعداد عالية تدلل على شدة خسائر أعداء المسلمين وهي التي دعت إلى ذلك الأمر فقد قيل إن قتلاهم بالغوا المائة ألف قتيل وهذا جزائهم لوقفهم في خندق واحد ضد حملة نور رسالة خاتم الأديان ومن هنا تيقن الشريكان في احتلال المنطقة العربية على الأرض وهم قادة قوات الفرس والروم حقيقة الخطر العربي الإسلامي الداهم الذي بدا انتشاره كعبق الرياحين وان الإسلام سينتشر بنوره بفتح كبير وسيطال حتى بلادهم بنفسها رغم أنوفهم وأنوف أسيادهم الظالمين

العراق عروبته تحريره اسلامه
المطاردة
ووفاة الخليفة ابى بكر وتولي عمر رضي الله عنهما واثر ذلك على تحرير العراق
بعد أن هزمت القوات الفارسية في معركة بابل قرر المثنى بن حارثة الشيباني كأي قائد محنك أن يستفاد من عرى تلك الهزيمة فاصدر أوامره إلى قطعات الخيالة العربية أن تلاحق فلول القوات الفارسية المتقهقرة فتمكنت تلك القطعات من القضاء على غالب فلول الفرس بعد أن استمرت بمطاردتهم حتى مشارف المدائن التي كان الفرس يتخذونها عاصمة لهم في ذلك الحين ولما علم كسرى شهرزان بذلك النبأ حزن كثيرا حتى انه مات من غمه وعن ذلك يروي الطبري ( لما انهزم هرمز وبلغت أخباره مسامع الملك فاغتم لذلك اشد الغم ثم انه مرض ولم يطل عهده حتى مات) وقد أحدثت أصداء ذلك النصر تداعيات مهمة في مملكة فارس ودخلت دولتهم بدوامات وانقلابات سياسية حتى أن آل الأمر إلى كسرى يزدجرد وكان قائده هو رستم بن الفرخزاد .
أصداء ذلك النصر على العرب والمسلمين
لقد فرح أدباء وخطباء ومفوهين العرب والمسلمين بذلك الخبر الكبير لانتصار آخر لقبائل بني بكر العربية المسلمة على الفرس في معركة بابل حتى انه تم التغني بذلك بقول الشعر به لتخليده وقد قال الفرزدق
فمنهن بيت الحوفزان الذي به*** تفلل بكر حد نبل المناصل
وبيت المثنى عاقر الفيل عنوة ***ببابل إذ في فارس ملك بابل
كما قال الشاعر الفارس الذي شارك بتلك المعركة وهو عبدة بن الطبيب
هل حبل خولة بعد البين موصول***أم أنت عنها بعيد الدار مشغول
وللأحبة أيام نذكرهـــــا *** وللنوى قبل يوم البين تأويـل
حلت خويلة في حي عهدتهـم *** دون المدائن فيها الديك والفيل
يقارعون رؤوس العجم ضاحية *** منهم فوارس لاعزل ولا ميـل
بعد ذلك فكر المثنى بان الفرس سيستغلون غياب القوات الإسلامية التي توجهت إلى الشام بقياد القائد خالد بن الوليد وسيجدون في ذلك فرصة للهجوم المركز على قوات تحرير العراق للانتقام منها ومحاولة إنهاء دورها أو إضعافها ففكر بسحب قواته من بين النهرين ومن بابل وعاد إلى الحيرة لينتظر نجدة القوات الإسلامية لاستكمال مسعى تحرير العراق العربي ولكن لما أبطأت عليه تلك النجدات فكر في السفر إلى المدينة ليقابل الخليفة أبى بكر رضي الله عنه مجددا ليشرح له مباشرة تفاصيل الموقف في العراق وليطلب منه التعزيزات للمحافظة على النصر الذي تحقق هناك فأمر القائد بشير بن الخصاصية أميرا على القوات العربية في العراق وانطلق إلى الحجاز في أواخر تموز 634م وكانت الرحلة من الكوفة إلى المدينة تحتاج إلى نحو ثلاثة أسابيع فوصل المثنى ووجد الخليفة مريضا ومع ذلك فقد حادثه بالأمر عدة أيام فاقتنع بضرورة إرسال النجدات مجددا لاستكمال عرى تحرير العراق فاستدعى الخليفة أبى بكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له (اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به وأني لأرجو أن أموت في يومي هذا فإن مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى وان تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى ولا تشغلنكم مصيبة وان عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما صنعت ولم يصب الخلق بمثله وبالله لو إني أني عن أمر الله وأمر رسوله لخذلنا ولعاقبنا فاضطرمت المدينة نارا وان فتح الله على أمراء الشام فأردد أصحاب خالد إلى العراق فانهم أهله وولاة أمره وحده وهم أهل الغداوة بهم والجرأة عليهم)
((وهنا يتفكر القارئ فيما تقدم وما سيلي في خطبة الفاروق عن مدى الإقدام والإيثار والتضحية التي اتسمت بها سلوكيات شخوص السلف العظام رضوان الله عليهم فلا تجد إن كبيرهم ولا صغيرهم قلق ومتفكر بأمر خاص أبدا حتى وان تعلق ذلك الأمر بحياته نفسها بل بصالح الأمة العام قبل وبعد كل شيء فأي أيثار هذا وأي صلاح وفلاح يودي لمن سار عليه بحق وذلك هو سر فلاحهم وصلاحهم الذي بغيابه تقاعسنا وتردى حالنا وان لم نعد إلى الله خالصين ولما ارسي لنا من قوامة نهج فلن يصلح حالنا بعد ذلك أبدا )).
وقد توفي سيدنا أبى بكر رضي الله عنه في 23من آب 634م أي بعد عشرة أيام من وصول المثنى إليه وكان المثنى قد حصل على أمر الخليفة بضرورة إسناد قوات تحرير العراق ولكنه بقي طامعا في أمر آخر لم يتسنى له الحصول عليه وهو إلغاء الأمر السابق الذي كان يقضي بعد السماح لأهل الردة بالاشتراك في الحروب مع إن هنالك الكثير من القبائل العربية التي يريد شبابها إظهار حسن نواياهم والاشتراك بالفتوحات وخاصة تلك المتاخمة لحدود العراق التي يرغب أبنائها بالإسهام في حرب تحرير العراق من الفرس كما إن ذلك كان مهما بالنسبة للمثنى لما يوفره ذلك من تغطية جيدة وعزوة طيبة للقوات العربية الإسلامية حين يسهم بسد النقص الحاصل في جهة العراق والشام آنذاك ولما تولى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اصدر أمره بإلغاء ذلك القرار فوفر بذلك دعما طيبا من سيول المجندين للجهاد في سبيل الله الذين يدعمون الجيش العربي الإسلامي بمدد كبير تنامى بالتدريج.
وقام سيدنا عمر رضي الله عنه في اليوم التالي لخلافته بدعوة الناس إلى الاجتماع في المسجد وخطب بهم ليحثهم على الجهاد لتحرير العراق وبقي الخليفة يحث الناس لاربعة أيام ولا من مجيب فنهض المثنى بن حارثة الشيباني وألقى خطابا حماسيا استثار من خلاله همم الناس بعد أن شرح لهم كيف انه وأصحابه قد تمكنوا من دحر الفرس في العراق وانه يأمل النصر كاملا بمعونتهم في المستقبل وكان لذلك الإيضاح مردودا طيبا فقد قال (أيها الناس لا يعظمن عليكم هذا الوجه فقد تبحبحنا ريف فارس وغلبناهم على خير شقي السواد وشاطرناهم واجترأ من قبلنا عليهم ولها إن شاء الله ما بعدها ) ثم وقف بعدها الخليفة فألقى فيهم خطابا ذكرهم فيه بما لهم في الحجاز واستثار نخوتهم وحثهم على الجهاد فقال (أيها الناس إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين الطراء يهاجرون عن موعود الله سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتاب أن يورثكموها فانه قال(( ليظهره على الدين كله)) والله مظهر دينه معز ناصره مولي أهله مواريث الأمم , أين عباد الله الصالحون).
فنهض أولا زعيم بني ثقيف أبو عبيد بن مسعود الثقفي قائلا ( يا أمير المؤمنين إنّا سمعناك وأطعناك وأنا أول من أجاب هذه الدعوة أنا وقومي وعشيرتي) ثم وقف بعده سعد بن عبيد فلبى الدعوة ثم سليط بن قيس وهو من أبطال العرب واستمر الناس بذلك حتى جاوزوا الخمسة آلاف مقاتل ومتم تعيين أبا عبيد الثقفي قائدا كونه أول من استجاب ولانه رجل رزين فقال ( الحرب زبون لا يصلح لها إلا الرجل المكيث) ثم طلب الخليفة من المثنى أن يعود إلى قواته بالعراق وقال له( النجاء حتى يقدم عليك أصحابك) .


معركة النمارق
634م
بعد أن انتهت مراسيم حشد المقاتلين للتهيؤ لنصرة القوات التي تقاتل لتحرير العراق عين الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه القائد أبا عبيد الثقفي قائدا على راس القوات العربية الإسلامية السائرة لإتمام مسعى تحرير العراق وسارت تلك القوات في طريقها لتنفيذ مهمتها الموكلة إليها بجيش بلغ قوامه نحو خمسة آلاف مقاتل ثم تضاعف عدد ذلك الجيش إلى عشرة آلاف بانضمام باقي القبائل العربية في الطريق إلى الحيرة التي أصبحت مركز الحكم العربي الإسلامي المحرر وقتئذ وقد تطلب ذلك المسير قرابة شهر كامل ثم التقى أبا عبيد وجيشه بالمثنى وقواته في خفان جنوب غربي الحيرة وكان القائد الفارسي رستم بن الفرخزاد قد هيأ جيشين كبيرين لقتال القوات العربية القادمة إضافة إلى التغرير برؤساء القبائل والعشائر من العملاء لإعاقة مسعى التحرير والتمرد على الحكم العربي الإسلامي وكان ذلك معلوما للمثنى الذي استشعر خطر تلك الحشود وتجحفل بقواته في تلك المنطقة بانتظار نجدة الجيش العربي الإسلامي القادم للإسهام بتحرير بلاده ولما علم القائد أبا عبيد بحيثيات الحشد من حوله وان هنالك قوات فارسية كبيرة تزحف بجيشين صوب الحيرة من جهتين الأولى بقيادة جابان والثانية بقيادة نرسي وان هنالك خطة معدة من قبل رستم فقرر أن يباغت الفرس بهجوم استباقي واعد لذلك خطة جريئة تقضي بان تتم مهاجمة الجيش الزاحف الأكبر على حين غرة وإبادته إبادة تامة ثم التحول بسرعة للقضاء على الجيش الثاني فوضع كتائب الخيالة الخاطفة بإمرة المثنى بن حارثة الشيباني الذي تحرك بتلك الكتائب من فوره إلى منطقة النمارق الواقعة بين الحيرة والقادسية ولما وصل الجيش الفارسي بقواته الثقيلة البطيئة إلى مشارف تلك المنطقة المفتوحة كسهل كبير هجم المثنى بقواته الخفيفة الرشيقة بتلك الخيول العربية التي تسابق الريح كالصاعقة التي أذهلتهم وأربكتهم وكان الهجوم شاملا للجبهة وكلا الجناحين فدارت معركة عنيفة انتصرت فيها القوات العربية الإسلامية برئاسة المثنى وأبيدت غالب القوات الفارسية وهرب ما تبقى منها وقد اقتيد فيها القائد الفارسي جابان أسيرا وقيل إن القائد أبا عبيد أمر بإطلاق سراحه فيما بعد بخطأ من أحد الجنود ولكنه لما عرف حين تم تشخيصه رفض التنازل والرجوع بكلامه فتم إطلاق سراحه.

اجمل ما قيل بهذا الانتصار الكبير

قال المثنى بن حارثة

غلبنا على خفان بيضا مشيحة *** إلى النخلات السمر فوق النمارق

وإنا لنرجو أن تجول خيولنـا *** بشاطئ الفرات بالسيوف البوارق

معركتي السقاطية وباروسما

معركة السقاطية

بعد ذلك النصر الساحق للمسلمين في معركة النمارق بقيادة القائد أبو عبيد ومعية المثنى بن حارثة الشيباني وباقي القادة والجند البواسل تقرر أن تتجمع القوات العربية الإسلامية للتحرك من الحيرة إلى اليّس السماوة حاليا ومنها إلى ذي قار وبعدها للاندفاع صوب كسكر التي كان ينوي القائد الفارسي التحرك من خلالها إلى ذي قار وتقع كسكر قرب واسط وغالبا هي منطقة قلعة سكر الحالية وبذا يكون الاتجاه للطرفين متعاكسا ولكنه على نفس المسار والإحداثيات فتحقق اللقاء والتقى الجيشان العربي والفارسي أولا في السقاطية والتي تقع في الطريق إلى كسكر وقربها وكان القائد العام أبو عبيد قد عين المثنى قائدا على مقدمة الجيش من خيالة الفرسان وذلك لدرايته وخبرته الجيدة بالمنطقة وحدث اللقاء كما تقدم بين الفريقين في السقاطية قرب كسكر فدارت معركة عنيفة حامية انتهت بدحر الجيش الفارسي وهزيمته وقد فر القائد الفارسي نرسي إلى المدائن.
معركة باروسما

في الوقت الذي انتهت فيه أحداث معركة السقاطية فان الإعداد كان يجري في مكان آخر جوارها لمعركة أخرى حيث كان القائد الفارسي الجالينوس قد وصل على رأس تعزيزات كبيرة جديدة إلى باروسما وهي تقع بين كسكر وواسط فدارت معركة طاحنة أخرى انتصر فيها العرب المسلمون بقيادة المثنى على الفرس بقيادة الجالينوس ولاذت القوات الفارسية بالفرار وانهزم الجالينوس إلى المدائن أيضا.
وقد جرت بحسب أخبار التاريخ في تلك المرحلة معارك أخرى بقيادة المثنى فقد ذكر البلاذري إن المثنى قد فتح بقواته زندورد بعد معركة حاسمة وغنم منها كثيرا من الغنائم أما الزوابي وهن من مدن العراق السابقة فقد تصالح أهلها مع القائد عروة بن زيد الخيل ورحّبوا بتحرير مدينتهم وبلادهم وكانت فترة انتصارات متلاحقة طيبة وقد قال فيها الشاعر عاصم بن عمرو
صبحنا بالكتائب رهط كسرى***صبوحا ليس من خمر السواد
صبحناهم بكل فتى كمــي***وأجرد سابح من خيل عـاد

معركة الجسر
قس الناطــف
في يوم السبت باواخر شهر رمضان من العام الثالث عشر للهجرة

لما تلاشت أحلام القائد الفارسي رستم بالحفاظ على ماء وجه إمبراطوريته وجيشه خاصة بعد فشل مسعاه بالحفاظ على ظهير قواته في المسالك الخارجية تجاه الحيرة والناصرية أراد القيام بحركة انتقامية فأعلن نفيرا جزئيا لقوات فارس بجيش بلغ قوامه ما يزيد على ثمانين ألف مقاتل يسندهم عشرون فيلا مجهز كدبابة وأمرهم برفع راية كسرى الخاصة التي لم تكن ترفع إلا في حالات قصوى وعصيبة وهي المسماة (الدرفس كابيان) والتي كانت مصنوعة من جلد النمور واختار لتلك القوات قائدا شديد الكره للعرب هو(بهمن جاذويه) الملقب ذو الحاجب وقد أوكل إليه التقدم إلى الحيرة كونها قد أصبحت مركز مشروع تحرير العراق فتحرك ذلك الجيش وانحدر صوب الكوفة وتوقف عند منطقة قس الناطف التي تقع على ضفة نهر الفرات قبالة منطقة الكوفة والتي لم تكن قد عمرت بعد وهنا تحرك القائد أبو عبيد الثقفي بقواته العربية الإسلامية نحو منطقة المروحة مقابل منطقة قس الناطف على الضفة الأخرى من النهر وقد كان بتلك المنطقة جسر قديم كان قد أمر بإصلاحه أبو عبيد من قبل فاجتمع على عجل قادة القوات الإسلامية قبيل المعركة وهم كل من المثنى بن حارثة الشيباني وشقيقه المعنى وسليط بن قيس ومسعود بن حارثة وبشير بن الخصاصية وعروة بن زيد الخيل الطائي وتزايد الجدل حول مسالة العبور إذ إن أبو عبيد من فرط شجاعته وإقدامه كان يود أن يعبر بالجيش الإسلامي إلى الأعداء بينما كان قادة جيشه يعارضون ذلك لمعرفتهم بطبيعة الأرض وبقتال الفرس ولوجوب ترك الصحراء ظهيرا لقوات المسلمين كما إن العبور سيكون خطيرا إذ قد يغدر بهم الفرس فيهجموا بينما هم يعبرون وأبدا الجميع اعتراضهم وكان على رأسهم المثنى وسليط ولكن أبو عبيد أصر على رأيه ولازمه العناد وقال( لا افعل جبنت والله إذن) وحاول أن يتهم الآخرين بالجبن ورد عليه سليط ودار بينهم حديث تداركه المثنى فقال إذا لم يكن هنالك من بد للعبور فليكن ليلا لنباغت الأعداء ونسيطر على ميدان المعركة ونختار الموضع الأصلح للقتال غير إن أبا عبيد لم يلتفت لهذا الرأي السديد وقال بل سنعبر في وضح النهار .
المعركـــة
بعد كل ذلك الإصرار على العبور الذي أبداه القائد أبا عبيد رضخ الجميع لرغبته وعبرت القوات الإسلامية بقيادته فواجهت منطقة غير فسيحة لا تصلح للمناورة بل هي محصورة ومما زاد الطين بلة إن الفرس وكعادتهم غدروا حين لم يمهلوا الجيش الإسلامي حتى ينتهي من العبور بكامل قواته بل باشروا بالهجوم على القطعات وهي تعبر فدارت معركة ضارية وشديدة غير إن الفيلة كان تأثيرها كبيرا خاصة وان خيالة الفرسان العرب واجهوا صعوبة من خلال تخوف الخيل من تلك الفيلة كما انهم لم يكونوا على دراية بكيفية التخلص منها أو تخفيف هجومها على المقاتلين المشاة على الأرض فراحت الضحايا تتزايد وقد ذكر البلاذري بان اللوم كان موجها تجاه أبا عبيد حتى أثناء المعركة فقد قال له سُلَيط( يا أبا عبيد كنت قد نهيتك عن قطع هذا الجسر إليهم وأشرت إليك بالانحياز إلى بعض النواحي والكتابة إلى أمير المؤمنين بالاستعداد فأبيت) وقد حدث ما حدث وتأزم الموقف وقاتل سليط رضوان الله عليه فأبلى بلاءً حسنا وكان قتاله شديدا استمر حتى نال الشهادة ثم لحقه كثير من الصحابة أما أبا عبيد فانه لما رأى ما حدث بسبب ذلك العبور وما أحدثته تلك الفيلة الهوجاء فانه سال عن إمكانية النيل منها فقال (أين مقتل تلك الدابة) فقيل له في خرطومها فقال ( إني حامل على هذا الفيل ومن حوله من الفرس) وكان يقصد كبير الفيلة وهو فيل ابيض يتقدمها جميعا وتسير خلفه ثم قال قولا فيه كثير من البطولة والإيثار لسبيل الجهاد ونكران الحياة وهونها عنده أمام الشهادة فقال ( يا معشر الناس إني لحامل على هذا المخلوق فانظروا إن قتلته وهزمت من حوله فأنا أميركم فان قتلت فأخي الحكم أميركم فان قتل فولدي وهب أميركم فان قتل فولدي مالك أميركم فان قتل فولدي جبر فأبو محجن الثقفي فالمثنى بن حارثة الشيباني) وهنا لابد من العودة إلى فكر ذلك الرجل الأخروي الذي تقف عند وصفه الأقلام إلا من درجة إيمانه وألا فكيف يقدم نفسه وأخاه وثلاث من أولاده دفعة واحدة وقودا بتلك المعركة الرهيبة.
فتقدم ذلك القائد البطل نحو الفيل الكبير وظل يناوره بالهجوم حتى تمكن من قطع خرطومه بضربة قوية خاطفة فانشد/-
يالك من ذي أربع ما أكبرك*** يالك في يوم الوغى ما أنكرك
إني لعال بالحسام مشفـرك*** وهالك وفي الهلاك لـي درك
لكن ذلك الفيل هاج من تلك الضربة فلطم أبا عبيد فأوقعه أرضا وقضى ثم قام برفسه حتى استشهد ثم سار الأمر كما خطط له رحمه الله .
وتولى من بعده الإمارة شقيقه الحكم الثقفي الذي قاتل كأخيه حتى نال الشهادة فتولى الإمارة من بعده وهب بن أبى عبيد الذي تقدم إلى المعركة وهو ينشد/-
لا خير في هلا ولا في ليت***من طلب الموت فهذا المـوت
ليس لامر الله فيك فوت *** قد سطع النقع ومات الصوت
فقاتل ذلك الشاب البطل حتى نال الشهادة فتقدم للإمارة أخوه مالك بن أبي عبيد فقاتل بشجاعة وقتل من الأعداء كثيرا وقد انشد/-
قد علمت وضاحة الترائب*** مبأسة بالثغر والحواجـب
إني غداة الروع والتشاغب*** أشجع من ذي لبدة مواثب
وفي تلك الأثناء قام أحد المقاتلين وهو عبد الله بن مرثد بعمل خطير من تلقاء نفسه فقد قطع الجسر لكي يقطع سبيل العودة مما اربك الحال كثيرا واحدث جلبة كبيرة خصوصا عندما حاول بعض المقاتلين العودة سباحة للتخلص من هجوم الفيلة التي كانت ترفسهم فغرق الكثير منهم بذلك التدافع من على الجسر وقد استغل الفرس ذلك فقاموا بهجوم كبير على راس الجسر فحدثت مجزرة كبيرة حتى أنقذ الموقف .


انقاذ الموقف العصيب
بعدما استشهد القائد أبا عبيد وغالب من تبعه صار الوضع حرجا فبادر أحد المقاتلين المسلمين ارتجالا بقطع الجسر الذي كان يربط بين ضفتي نهر الفرات في منطقة قس الناطف وكان عبد الله يقول ( أيها الناس موتوا على ما مات عليه أمراؤكم أو تظفروا) لكن ذلك التصرف تسبب بكارثة كبيرة من حيث قطع طريق الانسحاب في حال الحاجة إليه مع إن الحاجة لذلك الانسحاب كانت ضرورة كبرى من حيث عدم صلاحية موضع ميدان المعركة مما اجبر بعض الجند إلى الالتجاء إلى إلقاء أنفسهم في النهر للسباحة إلى الضفة الأخرى بغية التخلص من هجوم تلك الفيلة الهائجة فتدافع أولئك الجند وهلك كثير منهم غرقا في النهر فتضرر الجيش الإسلامي كثيرا وباتت الحاجة لإنقاذ الموقف ضرورة كبرى فتقدم المثنى بن حارثة الشيباني لإمارة الجيش فقفز إلى قيادة الجيش خارج التسلسل الذي أراده القائد أبا عبيد وهو يواجه موقف وامتحان عصيب انه كان خبيرا بقتال الفرس كما هو خبير بواقع عموم بلاده فرأى إن فعل ذلك هو ضرورة قصوى لإنقاذ ذلك الموقف الحرج فكان أول فعل عسكري ناجح قام به هو انه شكل جبهة دفاع لتحمي ظهر الجيش المنسحب من خلال تولي تلك القوات الهجوم المعاكس وقد قاد تلك المفرزة للخيالة الشجعان بنفسه بغارات خاطفة عوقت هجوم الفرس أوقفته لكسب الوقت وكان له ذلك فكان قد أمر بإعادة تشكيل الجسر ثم أمر بتشكيل قوة حماية على راس ذلك الجسر كي يعزل الفرس عن الجسر ويمنع تقدمهم وقد أوكل قيادة تلك القوة إلى عروة بن مسعود وبعد أن انتظم عبور الجيش بكامل فلوله المنسحبة انسحبت قوات الحماية التي كانت تتولى الهجوم المعاكس ثم انسحبت القوة المرابطة على راس الجسر وقد سحب المثنى الجيش العربي إلى الحيرة وهناك أعاد تنظيمه وحشده بعد أن ابلغ المدينة بما جرى وطلب النجدة العاجلة لتدارك ما قد يحصل فكان دور المثنى كبيرا من خلال حسن تدارك ذلك الموقف وكان المثنى قد جرح بذلك اليوم العصيب حين صد بيسراه الحاملة للدرع ضربة رمح قوية حتى غاصت إحدى حلقات وزرد الدرع بين ضلوعه ولكنه ظل صامدا يقاتل ويحمي مؤخرة الجيش وتحمل الآلام بصلابة وثبات حتى اكتمل تمام الانسحاب .
موقف نصارى عرب العراق المشرف
ليحترم وجهة نظرنا التاريخية بعض إخواننا المعارضين فسنراجع هنا مواقف لم يكن لها من علاقة بدفوع دينية بل لها علاقة بروابط ودفوع وطنية وقومية لا يستطيع أحد نكرانها مهما كره ذلك لأنها مواقف دخلت التاريخ واستقرت هناك سواء فوجب الوقوف عليها وإنصاف ذكرها بعدل وحيادية مثلما قمنا بانتقاد بعض المواقف الشائنة التي أنكرها الإسلام لما قام بها البعض في قسم من مناطق البلاد من قبل بني جلدتنا كموضوع التحالف مع الفرس ضد قوات التحرير العربية الإسلامية.
أما موقف غالب النصارى من عرب العراق سنمر عليه بالتدريج بحسب توالي الأحداث التي شكلت موقفا طيبا ومشرفا لهم كان قد ابتدأه بتلك الواقعة في قس الناطف رجل عربي من نصارى طي كان يمرّ بالحيرة وقتئذٍ وهو أبا زبيد الطائي واسمه حرصلة بن المنذر الطائي الذي عزّ عليه أن لا يشترك مع إخوانه العرب في مقارعة الفرس فهرع وانحاز إلى قومه وقاتل معهم قتالا مشرفا جنبا إلى جنب مع المثنى الذي ثمّن ذلك كثيرا فأثمر ذلك الموقف فيما بعد تعاونا مرضيا اسهم بدعم قضية تحرير العراق العربي راس وجمجمة العرب والمسلمين حتى اليوم.
الأخبار تصل إلى المدينة
بعد أن انتهت معركة الجسر بأحداثها الأليمة بعث المثنى برسالة إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيد عروة بن زيد الخيل ليشرح فيها الموقف وليخبره بأنه سوف ينسحب إلى السماوة وانه سيبقى بانتظار النجدات لاتمام مسعى التحرير.
فلما وصل عروة إلى المدينة ودخلها اخذ يردد/-
نعيت إلى أهل المدينة فتية***على مثلها تبكي النساء الكواعب
نعيت إلى الأنصار فتيانها التي*** بها كانت الأحياء طُرا تحارب
فدخل على الخليفة ليعطيه الرسالة وهو يقول( يا أمير المؤمنين انعي إليك أبا عبيد وأخاه وأولاده فلانا وفلانا وفلانا وانعي إليك, فسأله الخليفة فالمثنى فقال تركته جريحا فبكى عمر وضج الناس حوله بالبكاء فقال في ذلك البطل أبى محجن /-
إلى فتية بالطف نيل سراتهم *** وغودر أفراس لهم ورواحــــل
مررت على الأنصار وسط رحالهم***فقلت لهم هل منكم اليوم قافل
الانسحاب إلى أُليّس
لما أحصى المثنى خسائر جيشه ووجد انه فقد قرابة الأربعة آلاف شهيد بين قتيل وغريق إلى جانب فقدان ألفي مفقود عاد قسم منهم إلى قبائلهم في جزيرة العرب حتى انه لم يبقى معه من اصل عشرة آلاف مقاتل سوى أربعة آلاف مقاتل فقد كما انه كان بحاجة لبعض الوقت لاتمام تضميد الجرحى وصولا لمعافاتهم فاثر الابتعاد قليلا عن ساحة الاحتكاك المباشر مع الفرس ريثما تصل كامل دفعات النجدات العربية الإسلامية لاتمام تحرير العراق من الجزيرة العربية فقرر الانسحاب بالجيش وانحدر جنوبا إلى أُليّس السماوة اليوم لكن رستم القائد الأعلى للقوات الفارسية كان قد طلب إلى قائديه جابان ومردنشاه فقاما بمطاردة قوات المثنى بالفعل ولكن المثنى كان قائدا فذا خبيرا بفنون الحرب فقد ظل مستمرا بالانسحاب كي يجر القوات الفارسية إلى ابعد مسافة عن الحيرة ولم يلتفت إليهما حتى وصل مشارف السماوة وهناك التف عليهم وشن هجوما قويا قاده بنفسه على راس الخيالة العربية فانزل بهما هزيمة مذهلة مدوية فقد نزلت بهم خسائر فادحة حتى إن المثنى وقواته تمكنوا من اسر ذينك القائدين الفارسيين بنفسهم وهم جابان ومردنشاه فانكسر جيشيهما وقد لاذت باقي قواتهما بالفرار كونهم لم يتصوروا بان المثنى سيقدر على فعل كهذا مباشرة بعد واقعة الجسر وقد كان جابان هذا قد اسر كما تقدم في خفان حين أمر القائد أبا عبيد بإطلاق سراحه حين أمنه أحد المسلمين ولكن لما اسر أخيرا لم يكن له عذر ينجيه من القتل فأمر المثنى بإعدام القائدين الفارسيين اللذين قادا الهجوم فضربت اعناقهما وبعد ذلك النصر الجديد قويت معنويات البقية الباقية من الجيش العربي الإسلامي لتحرير العراق ثم كان لتأثير أصداء أخبار ذلك النصر وقعا كبيرا على معنويات العرب والمسلمين في عموم جزيرة العرب

No comments:

Post a Comment